..

مقالة بعنوان جهنّم

توطئة

سأقوم بدراسة موضوع جهنَّم من خلال كتاب الاسخاتولوجيا الموت والحياة الأبديَّة، للبابا بندكتوس السَّادس عشر، متوقِّفًا على الموضوع بيبليًّا، ثمَّ من تعليم الآباء، ومن بعدها بحسب تعليم الكنيسة الكبرى، وأيضًا جهنَّم في تاريخ القدِّيسين فخاتمة

مقدِّمة

إنَّ فكرة العذاب الأبديّ صاغتها اليهوديَّة بشكل واضح في القرون الأخيرة الَّتي سبقت العصر المسيحيّ والدَّليل على ذلك هو كلام يسوع وتعليمه1، وطالما كان هناك ذكر متواصل من خلال الكتاب المقدَّس، فهذا دليل دامغ على ارتكاز العقيدة على قاعدة ثابتة عن وجود جهنَّم، وعقابها الأبديّ

تعليم الآباء

إنَّ هذا التَّعليم هو شائك، وتصوّراته تناقض تصوراتنا عن الله وعن الإنسان، فنجد من الصُّعوبة اعتبار أنَّ الله لديه هذا الأسلوب من الجزاء، وأنَّ الإنسان يرفض كليًّا هذا الإله؛ وقد كانت الفكرة السّبَّاقة لأوريجانوس في كتابه (في المباديء Peri arcon) إذ استند إلى منطق إله مرتبط بالتَّاريخ، فتوصَّل إلى فكرة مصالحة شاملة، على سبيل فرضيَّة دون الادِّعاء بتصوير الواقع عينه؛ أمَّا بحسب الفكر الأفلاطونيّ الحديث، فالشَّر ليس شيئًا بالمعنى الصَّحيح للكلمة، بل هو عدم، والله وحده هو الواقع؛ أمَّا بالنِّسبة إلى الإسكندر الكبير فهناك إدراك كبير للشَّر، الَّذي يُعذِّب الله بل يميته، لكنَّه لم يتخلَّ كليًّا عن الرَّجاء بأنَّ واقع الشَّر، بفضل ألم الله عينه، قد تمَّ إصلاحه، وبالتَّالي فقد الشَّر معناه النِّهائيّ

تقليد الكنيسة الكبرى

لتقليد الكنيسة سلوك آخر، فالمصالحة الشَّاملة هي شيء منطقيّ بهذا المنهج، دون وجود مرجع كتابيّ، وهذا الصَّدى هو خفيف لفكر أوريجانوس، وقد سُمِّيَ ب"نظريَّة الرَّحمة": 1) إستثنائيَّة المسيحيين من إمكانيَّة الهلاك. 2) بناء على رحمة الله، تجعل الهالكين يستفيدون من تخفيف لعذابهم

الله يحترم مطلقًا حريَّة مخلوقه، فتوهب له المحبَّة، وتُحوِّل كل نقص؛ فالجواب على هذه المحبَّة ليس للإنسان أن ينتجه، لأنَّه بالمحبَّة نفسها بقوتها الذَّاتيَّة هي الَّتي تُثير هذا الجواب دون أنَّ ينفي إمكانيَّة الرَّفض؛ هنا الفرق بين حلم البوداهيساتفا “عدم دخول الشَّخص في النِّيرفانا2 ما دام يوجد واحد في الجحيم، بهذا الانتظار يُخلي الجحيم، لأنَّه لا يقبل الخلاص الَّذي يستأهله إلاَّ متى فرغت الجحيم”

تحقيق البودهيساتفا قد تمَّ بالمسيح فهو البودهيساتفا الحقيقيّ، هو الَّذي يذهب إلى جهنَّم ويُفرغها بآلامه، بل يعامل النَّاس ككائنات ناضجة قادرة على الاضطلاع على مصيرها؛ بل سماؤه ترتكز على الحريَّة الَّتي تترك حتَّى للهالك حقّ إرادة هلاكه

تتجلَّى ميِّزة المسيحيَّة باقتناعه بعظمة الإنسان، لأنَّ حياة الإنسان شيء جديّ وليس عنصرًا في مخطَّط الله؛ إذ توجد أمور لها رجعة فيها، وأيضًا هلاك لا رجعة فيه، وهنا دعوة للإنسان أن يكون جديًّا وواعيًا لهذه الجديَّة؛ فجديَّة الوجود الإنسانيّ والعمل الإنسانيّ تجلَّت بكل أبعادها في صليب المسيح، الَّذي يلقي الضُّوء على الموضوع من ناحيتين: 1) الله يتألَّم ويموت. 2) الشَّر بالنِّسبة إليه أمر وهميّ؛ لكن بالنِّسبة إلى الله (المحبَّة) ليس البغض عدمًا، فالله ينتصر على الشَّر من خلال آلامه ومن خلال جمعة عظيمة مقدَّسة وليس من خلال عقليَّة شاملة تُحوِّل كل رفض إلى قبول، وليس إلى رفض الشَّرّ بشكل شامل ولا جدليَّة العقل الشَّامل ولا آلام نظريَّة، بل يدخل هو نفسه في حريَّة الخطأة، في قبول وبكل حريَّة ليذهب إلى الهاوية، فيتجاوز بهذا العمل كل أنواع الحريَّات، لكن واقع الشَّرّ وطابع واقعيَّته وعواقبه واضحة جدًّا، فنطرح سؤالاً: إن لم يظهر جواب إلهيّ يُحوِّل الحريَّة إلى حريَّة من أجل ذاتها أي “أنني أمارس حريتي ويجب أن أمارسها لا لأنَّها صفة لي فقط، بل لأنِّي أملكها ويجب أن أمارسها” أو “ممارسة للحريَّة بحدِّ ذاتها”؛ الجواب محجوب في ظلمة انحدار يسوع إلى الجحيم، في ليل نفسه الأليم (لاهوت التَّخلِّي)، وهذا سرّ لا يُسبر ولاسيَّما لأنَّه يسير في ظلمة الإيمان المتألِّم، ذلك الإيمان الَّذي يحاول أن يصل إلى الحقيقة ويمسك بها فتُفلت منه ويصل إلى ليل الحواس والإيمان المظلم

جهنّم في تاريخ القدِّيسين

مع يوحنَّا للصليب وتريزيا الطِّفل يسوع، أخذت جهنَّم معنى جديدًا وشكلاً جديدًا، فجهنَّم ليست تهديدًا يُشهرونه ضدّ الآخرين بل هي دعوة في ظلمة ليل الإيمان، لأنَّه لا يقدر أن يُدرك الله

دعوة إلى الاتِّحاد بالمسيح من خلال مشاركة القديسين، ظلمة انحداره إلى ليل الجحيم، دعوة إلى التَّقرُّب من نور الرَّب، بمشاركتهم الظُّلمة الَّتي عاشها يسوع؛ والخدمة الَّتي يقدِّمونها لخلاص العالم، عن طريق نسيان خلاصهم الخاصّ لصالح الآخرين؛ هذه الرُّوحانيَّة لا تُلغي الواقع الأليم والرَّهيب للجحيم، بل هي واقعيَّة، فينفذ إلى صميم وجودهم الخاصّ

خاتمة

لا نقاوم الجحيم بالرَّجاء إلاَّ بالمشاركة بآلام ليلها إلى جانب يسوع الَّذي جاء ليحوِّل ليلنا كلّه بآلامه، فالرَّجاء لا يولد من تبرئة الإنسان، بل من ذبيحة البريء، ومجابهة الواقع مع يسوع المسيح، فهذا الرَّجاء ليس اعتباطيًّا، بل يستودع الرَّب طلبته للمؤمن ويتركها في يديه، هنا تجد العقيدة فحواها الحقيقيّ، والرَّحمة الَّتي رافقتها، فعل مدى التَّاريخ كلّه، لا تعود نظريَّة، بل تصير صلاة الإيمان المتَّسم بالألم والرَّجاء


  1. (متّ 25: 41؛ 5: 29 والإزائيَّة 13: 42، 50؛ 22: 13) ↩︎

  2. لفظ سنسكريتيّ يُطلق عند البوذيِّين على الخير الأعلى الَّذي يبلغه الإنسان برجوعه إلى المبدأ الأوَّل، وإمِّحاء ذاته الفرديَّة في الكلّ، وقد استعار شوبنهاور هذا اللفظ وأطلقه على السَّعادة العقليَّة والوجدانيَّة الَّتي يمكن بلوغها بإنكار إرادة الحياة، والإعراض عن مصالح الذَّات الفرديَّة، وأوهام الحواس، والنِّرفانا مرادفة للفناء لدى متصوِّفي الإسلام ↩︎