شرح لآيات من سفر نشيد الأناشيد
توطئة
أودُّ في دراستي هذه أن أشرح الآيات الأربع الأولى من الفصل الأوَّل من سفر نشيد الأناشيد، منطلقًا من مقدِّمة، ومن ثمَّ إلى تحليل المفردات، وأنتقل بعدها إلى ذكر ما ترمز إليه الآيات، فبنية النَّص، وبعدها النُّوع الأدبيّ وأنتهي بخاتمة
مقدِّمة
نُسِبَ هذا السِّفر في الماضي إلى سليمان نفسه لشهرته في الحكمة والأناشيد، على ما ورد في الآية الأولى من النَّشيد، لكن لغة السِّفر الأصليَّة تُبيِّن أنَّها تعود إلى العهد الفارسيّ (5ق.م)، بل إلى العهد اليونانيّ (3ق.م)، في حين أنَّ سليمان بن داود مَلَكَ على إسرائيل في القرن العاشر قبل الميلاد؛ وهو بالعبرانيَّة (שִׁיר הַשִּׁירִים) أي ترنيمة التَّرانيم أي أجمل التَّرانيم، قد يحتوي على بعض أشعار قديمة يرقى عهدها إلى سليمان
يتألَّف السِّفر من ثمانية فصول تحتوي حوارات بين حبيب وحبيبته، بتعابير غراميَّة جريئة للغاية، ولا يتوقَّفان إلاَّ على جمال جَسَديهِما وسعادة لقائهما في حبّ عنيف متبادل
أوَّلاً: تحليل المفردات
تُطلق كلمة (שִׁיר) العبريَّة على التَّرانيم الرُّوحيَّة، وتُطلق أيضًا على الأغاني الشَّعبيَّة، وأغاني الحب، وما تعني من فرح وبهجة، ويرافقها من أنغام الآت الموسيقى كالنَّاي والعود والكنَّارة؛ قد تعني مجموعة من أناشيد، أو ديوانًا كاملاً، ويُصبح العنوان الصَّحيح: “أناشيد الأناشيد”
“نشيد الأناشيد”: أو “حكمة الحكم الَّتي هي لسليمان"، نحن أمام قصيدة (שִׁיר) تُنشد ولاسيّما في الاحتفالات الليتورجيّة، بل هو أسمى الأناشيد كما نقول قدس الأقداس
اعتَبَرَ التَّقليد أنَّ سليمان كَتَبَه، ونحن نعرف أن الأسفار الحكميَّة والشِّعريّة نُسبت إليه
آ2) “ليقبّلني قُبَلَ فَمِهِ”: تتكلَّم العروس عن العريس، هي ترغب في القبلات، في التَّعبير الحِسِّيّ عن حبِّه، هذا التَّمنّي يتفجّر فجأة من قلبها بتأثير من عاطفتها الجيّاشة، وربّما بسبب الضِّيق الَّذي تعيش فيه، حُرمت مدَّة طويلة من ذاك الَّذي تحبّه، ولم تذكر اسمه لأنَّهُ مطبوع في قلبها؛ وقد تعني القبلات هنا أكثر مِمَّا تعنيه مدلولها الظَّاهر، ففي أسطورة (شاحار وشاليم) الأوغاريتيَّة يُقبِّل الإله إيل شفاه الإلاهتين، (وبعد القُبَل الحَبَل
“حبّك أطيب من الخمر”: تنتقل الحبيبة من صيغة الغائب (ليقبلني) إلى صيغة المخاطَب (حبّك)، وهذا التفات مألوف عبريًّا وعربيًّا، فتحدّثت عن الَّذي هو بعيد عنها وكأنَّه بقربها، الحبّ هو في صيغة الجمع ليدلّ على المدى البعيد؛ وترد لفظة الحبّ 39 مرة في السِّفر
حبّك خمور: (حرفيًّا) حبّك بصيغة الجمع، بزيادة كلمة (خمور) لتعني ما يعنيه الحبّ –بصيغة الجمع- من متعات ولذَّات؛ فالخمر حلو ومسكر ويفرِّح قلب الآلهة والبشر، وكذا الحبّ ما ليس في الخمرة من نشوة وحنان، لهذا فهو يرمز إلى كلّ لذّة؛ غير أن الحبّ يتجاوز كل الملذّات بعذوبته وقوّته
آ3) “عبيرك طيِّب الرَّائحة”: كلمة “ריח” تعني الرَّائحة والرِّيح والرُّوح، إذ تلعب العطور دورًا كبيرًا في نشيد الأناشيد، فتدلّ على السِّحر الَّذي يتمتَّع به العريس أو العروس، ثمّ إنّ اسم العريس حين تتلفّظ به العروس، يُقابَل بعطرٍ (שְׁמָנֶ، زيت) يريق رائحته الطيّبة
“إسمك طيِّبٌ مراق”: الإسم يعني، في المفهوم العبريّ، الشَّخص نفسه، فاسمك هو أنت، وأناديك نداء الحبيبة للحبيب؛ هنا نجد جناسًا بين الكلمات (שׁם) إسم، و(שִׂימן) طيِّب
“فلذلك أحبَّتكَ الصَّبايا”: نجد كلمة (עֲלָמֹות)، وهي تعني صبيَّة في عمر الزَّواج، لا العذراء بالضَّرورة، فالعذراء قد تكون هَرِمَة، والصَّبيَّة قد لا تكون عذراء
(آ4) “جُرَّني أو اجذبني”: أي أمسك بي، أو تعلّق بي، بالعبريَّة “מָשְׁכֵנִי”، يُستعمل هذا الفعل في معرض الحديث عن الحبّ، فهي تُعبِّر عن الحبِّ الإنسانيّ والإلهيّ، مثلاً: “بروابط الحب اجتذبتهم”1، “أحببتك حبًّا أبديًّا، ولذا اجتذبتك بحنان”2 ، “لا يسع أحدًا أن يجيء إليَّ ما لم يجتذبه الآب”3، “وأنا إذا ما رُفعت عن الأرض جذبت كلّ النَّاس إليّ”4، هنا تدعو الحبيبة حبيبها إلى خلوة، وإلى ما هو أبعد من القبلات والنِّداءات
الوضع هنا هو وضع المنفى، أراد الرَّب أن يشجّع شعبه المسبيّ ويضع في قلبه أملاً بالعودة، فظهر له من جبل سيناء، فالعروس الأسيرة هي اسرائيل، تعبّر عن رغبتها أمام الرَّبّ عريسها لكي يجعلها تعود إلى صهيون “نجري” هذا ما يدلّ على رغبتها الجامحة، فالرَّبُّ يأتي إلى المنفى، وهي تجري معه نحو فلسطين
“أدخلني خدرك، أيها الملك (منادى)”: بعد أن جرّها الملك، وجعلها تقيم من جديد في الأرض المقدَّسة، ها هي تعتبر أن ما طلبته قد تحقّق؛ هذا ما يسمّى صيغة “الماضي النَّبويّ”؛ إذ يتأكّد المؤمن منذ الآن أن ما طلبه سيتحقّق في المستقبل “الملك” هو الله، أو المسيح، بالنِّسبة إلى المدرسة الرَّمزيَّة، وهو سليمان بالنِّسبة إلى المدرسة الدراميَّة، ويُنعت الإله بالملك في طقوس الخصب الأوغاريتيَّة، وهو وصف شعريّ للحبيب –والحبيبة ملكَة- في قصائد الغَزَل الشَّرقيَّة، وأغاني الأعراس، لقد سمّي يهوه ملكًا في التَّقليد البيبليّ، والرَّاعي مكان الرُّعاة الأردياء (الملوك) في الماضي5
“الخدر” هو الحجرة الأخيرة في البيت، حيث يقيم ربّ البيت، وهنا يدلّ على الهيكل، على قدس الأقداس؛ بعد المنفى عاد الرَّب
إلى هيكله، كما قال إرميا ““لأنَّه سيَكونُ يَومٌ يُنادي فيه الرُّقَباءُ في جَبَلِ أَفْرائيم: “قوموا نَصعَدْ إِلى صِهْيون إِلى الرَّبِّ إِلهِنا””6
“نبتهج ونفرح بك” أو"تكون أنت فرحنا وبهجتنا”: الفعل العبريّ “גִיל” أي ابتهج؛ تستسلم العروس إلى تعابير الفرح، وهكذا ينتقل فكره من الأمّة إلى الأفراد، حيث يتمّ الانتقال من المخاطب المفرد إلى المخاطب الجمع؛ نحن هنا أمام الفرحة الَّتي يمنحها الخلاص الإسكاتولوجيّ أو الفرديّ، نبتهج من أجل اسم الرَّب؛ فيكون في سياق يتحدّث عن الخلاص؛ ونلاحظ كلمة سَنُسرُّ بكِ، لا بِكَ، هي الحبيبة تورد ما قال الحبيب
“ذاكرين حبّك أكثر من الخمر”: “نذكر” (זכּר)، نحن نذكر أعمال الرَّب، وبرّه، ورحمته؛ حبّ الرَّب المستمرّ من أجل شعبه، رغم خيانات الشَّعب؛ تُشير هذه النُّصوص في الوقت عينه إلى العودة من المنفى الَّتي تدلّ دلالة لا شكّ فيها على حبّ الله؛ والحب أشهى من الخمر، وأولى بالذِّكر، أي بالعودة إليه عودة اختباريَّة، لا على سبيل ذكرى حبٍّ انطوى، فذكر الحبّ كالحبّ فرح ونشوة
“عن حقّ يحبّونك” “لَكَم أنتَ للحبِّ أهل” (حرفيًّا): الحبّ أطيب من الخمر، والحبيبة على حقّ في حبّها، فما أعظم الحبّ مصدرَ غبطةٍ، وسبيلَ هناءٍ! وكأنَّ هذه العبارة احتفال ليتورجيّ بالحبّ (كما هو واجب ولائق)، وهي في صيغة الغائب الجمع، أي: “هم أبناء إسرائيل”، فمحبّة الله ليست في نظرهم نتيجة ميل تبرِّرُهُ كمالات الله وحسب، بل موضوع “إنصاف” ومبادلة، وواجب ينتج عن العهد
ثانيًا: الرَّمزيَّة في الآيات
“ليقبّلني بقبلات فمه تتوجّه العروس في الصَّلاة إلى ذاك الَّذي تحبّه لئلاَّ يتركها وحدها بل ليسرع إليه ويجتذبها معه، هنا نتذكّر مريم المجدلية في البستان، صباح القيامة: “إن كنت أنت أخذته، قل لي أين وضعته”7. تشير مريم إلى يسوع، وكذا الحبيبة لا تستطيع أن تفكّر إلاَّ في الحيّ الوحيد بالنِّسبة إلى قلبها، ولأنّ القلب كان متعلِّقًا به والأفكار كلّها متَّجهة نحوه، فقد فاض القلب بكلام صالح8
لا تريد الحبيبة وهي في منفاها، أن يكلّمها أحد عن عريسها، بل تريد أن تحدّثه بشكل مباشر وأن تكون معه، هي تريد يسوع حالاً، هكذا اشتياق العهد القديم إلى يسوع المسيح
“قُبَلُ الفم” حين تعود النَّفس وترتدّ، يُعطى لها أن تقبّل قدمَي الرَّب، كما نراه مع الخاطئة9، ثم ترتفع في حركة ثانية فتقبّل يده، كدليل على الصَّداقة والقرب والحياة الحميمة مع الرَّب، وفي نهاية الصُّعود تُعطى لها قبلة الفمّ الَّتي تدلّ على الاتِّحاد الكامل مع العريس الالهي
“ليقبّلني بقبلات فمه” يدلّ على الآب الذي هو مبدأ الحنان والحبّ، والفم هو الابن الوحيد؛ كلُّ ما نعرفه عن الله قد وصلنا في فم الابن الوحيد، والقبلة هي الرُّوح القدس، فالرُّوح هو القبلة الَّتي يطبعها فم الابن الوحيد في قلوبنا
نجد العروس بأنَّها معجبة بأمرين وتتلذَّذ بالتَّفكير بهما
صداقة العريس: والمقصود هو الاصطلاح معها وليُظهر علامة مودَّة، فهكذا كما أنَّ الأم تقبِّل طفلها بعد أن تنتهره وتوبِّخه، تريده أن يحضر بنفسه، كذلك كما كانت قبلات يعقوب لعيسو10
وليكلِّمني بكلمات النِّعمة الخارجة من فيه11، فكل واجبات الإنجيل متضمّنة في تقبيل الابن، كذلك كلّ النِّعم والبركات إنَّها قبلة السَّلام؛ فالقبلات هي عكس الجروح12، فقبلات النِّعمة هي عكس جروح النَّاموس، فالمؤمنون مستعدُّون أن يُرحِّبوا بإعلان محبَّة المسيح لنفوسهم بروحه، وأن يردُّوا له صدى المحبَّة فيحبُّوه من كلِّ قلوبهم، ويفرحوا به فوق كلِّ شيء “فثمر شفتيه سلام”13
“حبّك أطيب من الخمر” تذكر العروس الخمر فيرد سبع مرَّات على شفاه الحبيبة والحبيب، فيدلّ على كمال العذوبة والقوَّة والعيد والفرح، وعلى ما في الحبّ من مسكر، ويرتبط الخمر في الإنجيل بالحبّ، فأولى آيات يسوع تتمّ خلال حفلة عرس، حيث قدّم فيضًا من الخمر
“عبيرك طيّب الرَّائحة“تُذكر الطُّيوب في كلَِّ أقسام نشيد الأناشيد، وهي تحتلّ 15 آية ونيِّف، فتدلّ على ما في الحبيب من سحر؛ وكما تتغلغل العطور في كلِّ مكان، وتتعلّق بكلّ شيء بشكل لا يقاوم، هكذا حبّ الحبيب يحيط بكلِّ شيء، ويرافقها إلى كلِّ مكان تذهب إليه، لأنَّ عطره يسحرها
“اسمك عطر مراق” إسم العريس لم يُكشف، إنَّه خفيّ ومجهول وسرِّيّ، فلا هويّة خاصة بعريس نشيد الأناشيد، هو يتماهى مع الحبّ نفسه، فالاسم كالزَّيت يتغلغل حتَّى جذور الكيان؛ نتذكّر مسيح الرَّب، ذاك الَّذي ينال مسحة الزَّيت الَّتي تدلّ على أنَّ الرُّوح تغلغل فيه ليوليه مهمة ورسالة، فاسم الحبيب كاسم مسيح الرَّب؛ والطِّيب الَّذي يجتاح الذَّاكرة ويظلّ طويلاً بعد أن يكون الحبيب قد زار النَّفس بتعزيته
“لذلك أحبّتك العذارى”: الحبيبة تهنّئ نفسها لأنَّ الصَّبايا يحببن ذاك الَّذي تحبّه، فحبّ سائر الصَّبايا للحبيب يُبرز في نظر الحبيبة عظمةَ اختياره لها، لا شكّ في أنهنَّ كلهنَّ يحببنه، ولكنَّها وحدها هي الحبيبة. قطع الله عهدًا مع شعبه وعرفت إسرائيل أنَّها الشَّعب المختار، ولكنَّها لم تحسب هذا الاختيار أمرًا محصورًا فيها، الرَّب هو إلهها، وهو أيضًا إله الكون
“اجذبني وراءك فنجري تحسّ العروس، بعجزها عن الوصول إلى الحبيب، عليه أن يأتي بنفسه للقائها ويجتذبها وراءه؛ وضعُها هو وضع إسرائيل البعيدة عن صهيون مقام الرَّب؛ هذا هو وضع الكنيسة، ووضع كلّ نفس أُكرمت بيسوع المسيح، فتألّمت لأنها وجدت نفسها بعيدة عنه كلّ هذا البعد. إن لفظة “جذب، جرّ” (משׁך) تنتمي إلى العالم النَّبويّ، إنَّها تدلّ على الارتداد إلى الله لدى الأنبياء
“أدخلني الملك أخاديره” الرَّغبة تصبح حقيقة وواقعًا مع مثل هذا العريس، هكذا الرَّبّ يُدخلنا إلى حياته الحميمة فجأة من دون سبب ولا استعداد، فالحبيب هو الملك بشكل مطلق، مقابل هذا لا تسمّى العروس “ملكة” في سفر نشيد الأناشيد
“الخدر” أو “خدره”: فهي تعني “قدس الأقداس”، وتدلّ على حضور الرَّب وسط أخصّائه، فالخدر هو مكان لا يدخله من يشاء، يُدخلها ويعتزل معها في صمت حياة حميمة، ويغمرها بألف نعمة ونعمة، ستبتهج حين تنكشف أمامها أسرار الملك ومعجزاته الخفيّة؛ هي موجودة في غرفة ملوكيّة مملوءة بكنوز عظيمة لا عدّ لها
الملك هو الَّذي يُدخلها، فكلّ مبادرة تأتي منه، فالحبيبة تدخل وحدها مع الحبيب وتبقى الصَّبايا خارجًا، بعد هذا تخرج العروس إلى الصَّبايا وتخبرهنَّ بما رأت وحدها، هكذا نكتشف رباطًا بين المشاهدة الحميمة وعمل التَّبشير، فالواحد يقود إلى الآخر، فالحياة الحميمة والشَّخصيّة تدفعنا إلى أن نعلن على جميع الشُّعوب الحبّ الَّذي التقينا به
“نبتهج ونفرح بك لفظتان تردان مرارًا معًا عند الأنبياء، هناك الوجهة الخارجيّة للفرح، وهي تنتقل إلى الجسد كلّه وتجعله يرتعش، كيوحنَّا المعمدان في حشا أمه14. وهناك الفرح الدَّاخليّ والعميق الَّذي يلج إلى النَّفس كما عبّر يوحنَّا المعمدان أمام العريس: “هذا هو فرحي وهو كامل”15. العروس هي الشَّعب، هي الأمّة الَّتي تزوّجها الرَّب
“نذكر حبّك أكثر من الخمر” هذا الفعل الَّذي يُستعمل لإنشاد عظائم الله في الخلق والتَّاريخ، يطبّق هنا على أسمى أعمال الله، على عطيّة حبّه
“عن حقٍّ يحبّونك” هكذا تستطيع الحبيبة أن تختم كلامها؛ فالتَّقيّ الإسرائيليّ يَعتبرُ أنَّ حبّ الله هو أكثر من اتّباع ميل في قلب الإنسان، إنه طاعة لأولى الوصايا، أن تحبّ الرَّب إلهك، فمحبّة الله بالنِّسبة إلى المؤمن، هي هوى وانشغاف
ثالثًا: بنية النَّص
تأتي الآيات (1: 1-4) في سياق المقدِّمة والعنوان
آ1) (שִׁיר הַשִּׁירִים אֲשֶׁר לִשְׁלֹמֹֽה) تعني نشيد الأناشيد لسليمان: فنحن لسنا أمام كلمات مكتوبة وحسب بل في عالم صوتيّ مع النِّداءات والأصداء والأسئلة والأجوبة، فهو لا يكتفي بالتَّحدُّث عن الحبّ بل يُغنِّي الحبّ، إنَّه الحبّ المتفجِّر كلمات
يُظنُّ أنَّ الملك سليمان رأى فتاة من شونم أي سولم الحاليَّة تلقَّب شولميث، أي سلوميَّة أو سمع خبرها لأنَّها جميلة جدًّا كأبيشح المذكورة في سفر الملوك الأوَّل16فأخذها إلى أحد قصوره لتُضمَّ إلى حريمه، والأرجح أنَّ إحدى سيِّدات الملك تكلَّمت بالنِّيابة عن رفيقاتها17 وغايتهنَّ أن يشوِّقن السَّلوميَّة إلى محبَّة سليمان ولعلهنَّ عملن ذلك بأمر الملك وكنَّ في قصر الملك، والأرجح أنَّ القصر كان في أورشليم
تكوّن (آ 2- 4) قطعة تامة تبدو بشكل مدخل إلى الكتاب، وهي تنقسم في بيتين شعريين: (آ 2- 4أ) ثم (آ4 ب)؛ كلّ بيت ينتهي بعبارة مميّزة. البيت الأول: أحبّتك العذارى. البيت الثَّاني: عن حقّ يحبّونك
يبدو أن العروس وحدها هي على “المسرح”، هي لا تذكر إسم العريس، لأنَّ قلبَها مملوء منه، فتجعل عواطفها تتفجّر دون أن ترتب كلماتها، تارة تتحدّث إليه في صيغة الغائب، وطورًا تحدّثه وكأنَّه حاضر أمامها. إذن، هي تحبّه دون أن تمتلكه، إلاَّ أنَّها متيقّنة أنَّه سيأتي ويطلبها فتسكن معه، وإذا قابلنا هذا المقطع مع نصوص العهد القديم نجد أن الوضع الَّذي يفرضه هذا النَّشيد هو زمن المنفى
إحتفظ شعب إسرائيل بحبّ الله، وتاق إلى العودة إلى فلسطين لينعم بامتلاك ذاك الَّذي انفصل عنه، هذه هي نقطة الانطلاق من أجل تفسير نشيد الأناشيد. إجذبني وراءك، أدخلني خدرك (1: 4) هذا هو المدخل إلى فصول الحبّ الأربعة
هذه هي البوّابة الكبيرة التي تجعلنا نلج إلى نشيد الأناشيد، إلى أجمل نشيد، نشيد حبّ الله لشعبه، نشيد حبّ الله لكل واحد منَّا، منذ البداية، أُعطي اللحنُ وأُعلنت المواضيع وتوضّحت الطَّريق الَّتي ستصل بنا إلى انتصار الحبّ
هناك أيضًا بنية أخرى
آ1) نشيد الأناشيد الَّذي لسليمان: عنوان هذا السِّفر، ولمن.
الحبيبة: يُفتتح النَّشيد بقول الحبيبة، مرتبط بالعنوان، تُعلِنُ فيه إعجابها بالحبيب وشوقها إليه: “ليقبلني بِقُبَلِ فمهِ” (1-2أ): هنا تنهُّد باطنيّ، يحل محلّه توجُّه مباشر إلى الحبيب (1: 2ب-4) “فإنَّ حبّك أطيب من الخمر"؛ شهوانيَّة صريحة تَظهر من خلال التّكرار المثلَّث للآية 2ب الَّتي تركِّز الانتباه على القبلة؛ ومن ثمَّ تنتقل القراءة فور ذكر الخمر والعطور إلى عالم الأحاسيس حيث يُستدعى الشَّم والذَّوق والبَصَرَ.
قصَّة علاقة حميمة بين رجل وامرأة، قصَّة الحب بينهما وتودُّدهما وزواجهما هي قصَّة دراميَّة حيَّة، تُصَوِّر حوار المحبَّة بين فتاة يهوديَّة بسيطة من “شولميث” وحبيبها “الملك سليمان”، ويصف السِّفر بالتَّفصيل مشاعرهما من نحو أحدهما للآخر، وأشواقهما للالتقاء معًا؛ وطوال الحوار نجد الجنس والزَّواج في موضعهما الصَّحيح كما قصدهما الله
البعض يقول بأنَّها قصَّة رمزيَّة عن محبَّة الله لشعبه القديم، أو الكنيسة والبعض الآخر يقول إنَّها قصَّة واقعيَّة عن المحبَّة الزوجيَّة، وفي الحقيقة هي تعبِّر عن كليهما معًا، فهي قصَّة تاريخيَّة تضمّ تحتها هدفين: فمن ناحية، نتعلَّم عن المحبَّة والزَّواج والجنس، ومن النَّاحية الأخرى، نرى محبَّة الله الفائقة لشعبه
رابعًا: النُّوع الأدبيّ
نشيد الأناشيد: نحن أمام قصيدة (שִׁיר) تُنشد ولاسيّما في الاحتفالات الليتورجيّة؛ هو في خطِّ التَّقليد البيبليّ، ولاسيّما النَّبويّ (ما بعد المنفى) حين يُعطى يهوه لقب ملك، ويربط هذا اللقب بالعودة من المنفى، وبالتَّالي بمجيء الأزمنة الجديدة، ولفظة “جذب، جرّ” (משׁך) تنتمي الى العالم النَّبويّ، إنها تدلّ على الارتداد إلى الله لدى الأنبياء، أمَّا الموضوع الملكيّ يظهر من آ4، فهو يلمِّح بلا تردُّد بالملك سليمان حين تزوَّج بامرأة مصريَّة
“نبتهج ونفرح بك” تحمل معنى إسكاتولوجيًّا، نحن أمام الفرحة الَّتي يمنحها الخلاص الإسكاتولوجيّ أو الفرديّ، نبتهج من أجل اسم الرَّب
ولا ننسى المعنى الصُّوفيّ العميق الَّذي يحمله هذا السِّفر، بالإضافة إلى العالم الرَّمزيّ، والتَّاريخيّ، والغزل، والعواطف، والحبّ والغناء، والتَّشابيه الغنيَّة الَّتي تصف حب الله لشعبه، وكذلك مدى علاقة الإنسان بخالقه وتسبيحه له والإشادة بعظائمه
خاتمة
جوهر نشيد الأناشيد وعمقه يكمنان، لا في الحبّ الجسديّ بحدِّ ذاته، بل في ما هو أهمّ وأفعل: الحنان، فهو نشيد بل أغنية حنان لا يرتوي ولا يُحدّ، حنان الإنسان إزاء الإنسان، وحنان الإنسان إزاء الله، تمامًا كما أحبَّ الله الإنسان، هو حنان لا متناه
الحبّ والحنان هو بنية اللاهوت البيبليّ، وما حياة يسوع إلاَّ حلقات حنان توَّجها على الصَّليب، وأتحف بها الكنيسة بقيامته، هي رسالة حنان لا يُحدّ
يُفيدنا نشيد الأناشيد، لا عن مؤسَّسة الزَّواج؛ بل عن النَّشوة الرُّوحيَّة، والمتعة الحِسيَّة، وعن فرح الحبيبَين وغزلهما الشّهوانيّ؛ فللحبيبة دور يوازي حبيبها، فالحبيبة تكشف عن أحاسيسها، وتبوح باللامباح منها، فهي تشتهي حبيبها بكلِّ قلبها وجسدها؛ فهي مغرمة به حتَّى الثَّمالة، فلا حبّ بدون شهوة، ولا شهوة بدون حبّ؛ فالأوَّل تغيّب صوفيّ، والثَّاني غياب غرائزيّ وهو مُنكَر، أمَّا الوحدة فتتمّ بالحبّ والشَّهوة معًا، وهو حضور إنسانيّ متبادل بين الحبيبين
المراجع
- قمير يوحنَّا (شرح)، خليفة لويس (مراجعة)، نشيد الأناشيد أجمل نشيد في الكون. 1994؛ المطبعة البولسيَّة: جونيه
- نخلة إيلي، تفسير وشرح نشيد الأناشيد الَّذي لسليمان، مراثي إرميا؛ (د.ت)؛ (د.ن): (د.م
- هنري متَّى (تأليف)، داود مرقس (ترجمة)، نشيد الأنشاد. 1980؛ مكتبة المحبَّة: القاهرة
- أفاضل اللاهوتيِّين، السُّنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم، بيروت: لبنان، ج8
- آن ماري بلتبيه (تأليف)، الغزال أنطوان (تعريب)، نشيد الأناشيد.1994؛ دار المشرق: بيروت، عدد 27
- فغالي بولس (الأب)، نشيد الأناشيد أو نشيد حبّ الله لشعبه، 1997؛ جونية: لبنان. عدد15
- جريدة بيبليا، نشيد الأناشيد أجمل نشيد في الكون، كتاب عشق تحتضنه البيبليا، 1992؛ المركز الرِّعائيّ: جبيل، عدد 18
- (د.م)، التَّفسير التّطبيقيّ للكتاب المقدَّس، 1997؛ (د.م)