أساس العقيدة الثالوثيّة
الإعداد لها في الفلسفة وفي تاريخ الأديان
يختصّ الإيمان المسيحيّ بالله بالاعتراف بإله واحد في ثلاثة أقانيم، فهو العلامة المسيحيَّة للكلام على الله، والتَّفسير الإلزاميّ للكشف عن الله في يسوع المسيح بفعل الروح القدس. فالاعتراف الثَّالوثيّ هو تلخيص لمجموع سرّ الخلاص المسيحيّ. إنَّ عقيدة الثَّالوث الكنسيَّة تتمَحوَر حول الاعتراف الثَّالوثيّ على أنَّه وحدة الجوهر وثلاثة أقانيم أو أشخاص، إذ ليس الموضوع في الاعتراف الثَّالوثيّ مشكلة حسابيَّة ومنطقيَّة، بل هي سطحيَّة نسبيًّا على المستوى الوجوديّ
إنَّ مشكلة الوحدة هي أساسيَّة للإنسان وللإنسانيَّة، والوحدة هي ما يمكِّن الكائن من أن يكون متماهيًا مع ذاته وقابلاً للتّعريف، وتقتضي وحدة كهذه اللاإنقسام الدَّاخليّ والاختلاف مع الآخر. لذلك الوحدة هي التَّحديد الأَوَّل للكائن؛ فالوحدة ليست إذن العدد، بل هي إمكانيَّة التَّرقيم؛ والوحدة الكميَّة القابلة للعدّ يفترض من قَبل أشكالاً أسمى للوحدة، إذ لا يمكن التَّفكير في عدد كبير من الكائنات إلاَّ بفضل وحدة النُّوع، والجنس المتعالية
الوحدة العدديَّة تفترض من قبل وحدة النُّوع والجنس، إذ بدون وحدة كهذه، يكون العالم بلا نظام ولا سبب. هكذا فقط يمكن فهم الإيمان التَّوحيديّ بالله؛ ومسألة الوحدة في كثرة الأشياء وقد طرحتها من قبل الميثولوجية لأنَّ تعدُّد الآلهة يعبِّر في العمق عن التَّمزُّق، لذلك ليست معظم الدِّيانات متعدِّدة الآلهة تمامًا، بل تعرف إلهًا أعلى؛ فهي محاولة مستنيرة تعلن فيها الوحدة التَّامَّة لكل الحقيقة الواقعة
شغلت مسألة الوحدة الفكر الغربيّ، حتَّى وصل كسينوفانيس إلى نتيجة: إله وحد أكبر بين الآلهة والبشر، فأثَّرت في أرسطو فيقول: " ليس من الجيِّد أن يملك كثيرون، من الأفضل ألاَّ يكون سوى سيِّد واحد"؛ فتحقَّقت فلسفة الوحدة أتمّ تحقيق في الأفلاطونيَّة الجديدة؛ وأفلوطين شَرَحَ أنَّه بما أنَّ كلّ كائن يفترض من قبل الوحدة، فلا بدَّ من أن يكون الواحد أبعد من الكائن. فهو عصيّ على الوصف، ولا يمكن البلوغ إليه إلاَّ في انخطاف العقل، لأنَّه يفوق الإدراك العقليّ المحض. هكذا كانت فلسفة الوحدة في الأفلاطونيَّة الجديدة قاعدة لروحانيَّة تبتغي أن تتنقَّى النَّفس من المتعدِّد للارتفاع إلى الواحد وملامسته في انخطاف صوفيّ
أثبت العهدان القديم والجديد أيضًا ثالوثِيَّات من هذا النَّوع، فلسنا نجد في أيِّ مكان التَّصوُّر المسيحيّ النَّوعيّ لألوهيَّة بثلاثة أقانيم، فالوحدة في التَّنوُّع، في المسيحيَّة هي مشكلة لاهوتيَّة حصرًا، بل في داخل الألوهة، وهي تقوم فقط على أساس تاريخ الله مع البشر، في كشف الآب التَّاريخيّ عن ذاته بيسوع المسيح في الرُّوح القدس. إنَّ الاعتراف بالله الواحد في ثلاثة أقانيم يدَّعي، بطريقة مسيحيَّة نوعيَّة، أنَّه يجيب عن مسألة البشريَّة الأساسيَّة: مسألة الوحدة في التَّعدُّد
أساس الثَّالوث في لاهوت الوحي الوحدة الإلهيَّة
يبدأ الاعتراف المسيحيّ بالإيمان “أؤمن بإله واحد”. هُنا يُختصر إيمان العهدين القديم والجديد. رغم أنَّ العهد القديم يحسب حسابًا، بشيء من البراءة، لوجود آلهة غريبة، لكنَّها تُظهر في أنَّ يهوه هو أعلى منها مقامًا بل يبدو كإله غيور؛ فمن يعبد آلهة أخرى لا يُحب يهوه من كلِّ قلبه وكلِّ نفسه وكلِّ قدرته. ولم يكن قد أُثير بعد وجود أو عدم وجود آلهة أُخرى، بل من المحتمل أنَّ وجودها كان مقبولاً؛ ولكن الحركة النَّبويَّة شنَّت معركة لمحاربة كل الغوايات التوفيقيَّة، وصار الكلام على يهوه كإله بدون زيادة. يمكننا أن نستخلص أمرين
وحدانيَّة الله في الكتاب المقدَّس هي نتيجة اختبار دينيّ وممارسة إيمانيَّة. فالإيمان بالله الواحد هو التزام أساسيّ للواحد الضَّروريّ، لأنَّه في العمق هوكل شيء؛ بل قرار أساسيّ يوجب توبة دائمة
في الوحدة الإلهيَّة أكثر من وحدة كميَّة وعدديَّة. ففي الله وحدانيَّة وخصوصيَّة نوعيَّة. ليس الله واحدًا فقط، بل هو وحيد. أي الوحيد بحدِّ ذاته ويستطيع أن يكون لامتناهيًا وحاضرًا في كلِّ مكان، فوحدانيَّته معطاة مع جوهر الله ذاته؛ وهي في الوقت عينه شموليّته الَّتي تضم البشر بأجمعهم
استعاد المدافعون عن المسيحيَّة الأولى مفهوم المونارخيَّة الإلهيَّة فكانت عنصرًا ثابتًا في التَعليم المسيحيّ العماديّ ومن أجل الكرازة الكنسيَّة، فاعترفوا بإله واحد، خالق السَّماء والأرض؛ هذا الاعتراف التوحيديّ يصل المسيحيَّة باليهوديَّة والإسلام، إلاَّ أنَّ المسيحيَّة تتميَّز منهما في الفهم الفعليّ لوحدة الله كوحدة في ثالوث
إنَّ مطلقيَّة الله ولانهائيّته تحولان دون وجود إله ثانٍ، وعدم انقسامه إطلاقًا، لأنَّه البساطة المطلقة، فالوحدة الإلهيَّة تعني جذريًّا أنَّ الله روح محض، في بساطته المطلقة، كأنَّهُ متعالٍ، على الإطلاق
ُتطْرَح اليوم مشكلة الوحدة والتَّعدُّد كمشكلة وحدة الله نفسه، فيكون الله كائنًا منفردًا جدًّا يحتاج بالضَّرورة إلى العالم كشريك. أفكار كهذه تجعلنا نستنتج أن تأكيد الوحدة الإلهيَّة يتضمَّن مسألة الثَّالوث، وعلى هذه الخلفيَّة، يمكننا أن نفهم كيف صار الاعتراف الثَّالوثيّ، عند آباء الكنيسة، الشَّكل الحِسِّيّ للوحدانيَّة المسيحيَّة
الإله الحيّ التَّهيئة في العهد القديم
في العهد القديم يقين بأن يهوه هو واحد ووحيد، ولا يرضى بآلهة أخرى تجاهه، لكن صيغة الجمع الَّتي يستعملها الله عندما يخاطب ذاته، أراد آباء الكنيسة أن يرَوا تلميحًا إلى بنية تعدُّد الأشخاص في الله، لكن لم يعد التَّفسير الحديث يقبل هذا التَّأويل. كذلك الحال بما هو للتَّفخيم، هو أيضًا مُستبعَد. إلاَّ أنَّ صِيَغ الجمع هذه تدل على أنَّ العهد القديم لا يعرف وحدانيَّة جامدة، بل إلهًا حيًّا هو الملء الفائض للحياة والرَّحمة؛ لكن يرد في العهد القديم صورة “ملاك يهوه” إنَّه يرافق يهوه في السِّير في الصَّحراء، ويساعد المظلومين، ويحمي المُتَّقين، ويُعلن قدرة الله، وعلمه، فهو صورةٌ في الوحي متميِّزة عن الله، وأحيانًا يكون يهوه نفسه؛ وعليه تبدو، في ملاك يهوه، الحاجة إلى إقامة جسر بين جوهر الله غير المُدْرَك والخفيّ عن الإنسان، وحضوره الحقيقيّ والأساسيّ في التَّاريخ. وبالتَّالي يُمثِّل ملاك يهوه من قَبْل كل المشكلة اللاحقة المرتبطة بالتَّماهي أو الاختلاف بين الله وصورته في الوحي. وهو في الوقت عينه يعبِّر تعبيرًا قويًّا عن أنَّ إله العهد القديم هو إله حيّ في التَّاريخ
البنية الثَّالوثيَّة الأساسيَّة للكشف الإلهيّ الأساس في العهد الجديد
يعطينا العهد الجديد جوابًا واضحًا عن السُّؤال المطروح في العهد القديم في شأن من هو حِيال الله: يسوع المسيح، ابن الله، هو ال"أنت" السَّرمديّ للآب؛ ونحن في الرُّوح القدس مقبولون في شركة محبَّة للآب والابن، لأنَّ الله محبَّة؛ والاعترافات الثَّالوثيَّة المثبَّتة منذ العهد الجديد هي شرح لعبارة الله محبَّة، الَّتي هي تفسير لحدث الكشف في يسوع المسيح؛ فيسوع يكشف عن الله أنَّه الآب بالقول والفعل، لكن يسوع المسيح يكشف عن الله كآب له بطريقة وحيدة وغير قابلة للمشاركة تمامًا، بينما نحن بفضله فقط نصير أبناء وبنات لهذا الآب، وفي العلاقة الوحيدة وغير القابلة للمشاركة الَّتي ليسوع مع " الأبَّا" يكشف الله عن ذاته كآب، وهو منذ الأزل إله وأبو يسوع المسيح، وأنَّ يسوع هو من ذات الله السَّرمَدِيَّة؛ في هذه العلاقة يفتتح يسوع بنوّتنا الإلهيَّة ويجعلها ممكنة
إنَّ الشهادة الثَّالوثيَّة الأهم في العهد الجديد بكامله، هي بالمعموديَّة “إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس”. هذا النَّص، يقدِّم المساواة في الحقوق بين الآب والابن والرُّوح، فهذا التَّأكيد هو كخلاصة لتطوُّر الكنيسة وممارستها، فالاعتراف الثَّالوثيّ يعبِّر عن مُجمل الخلاص الَّذي نناله في المعموديَّة؛ فالاعتراف الثَّالوثيّ هو مختصر الإيمان المسيحيّ
رسائل بولس حافلة هي أيضًا بصيغ ثالوثيَّة. مثلاً في (روم1: 3)… “يسوع المسيح المقام بفضل الآب بحسب روح القداسة بقدرة ابن الله” وفي (غلا4: 4-6 ) نجد خلاصة كاملة لرسالة الخلاص المسيحيَّة: " ولكن لمَّا تمَّ ملء الزَّمان، أرسل الله ابنه… لننال التَّبنِّي. والدَّليل على أنَّكم أبناء كون الله أرسل إلى قلوبنا روح ابنه ليصرخ: أبَّا أيها الآب".فكل مرَّة إذن يريد بولس التَّعبير عن كل ملء حدث الخلاص وحقيقته، فهو يلجأ إلى صيغ ثالوثيَّة. وتقوم الكنيسة على أساس ثالوثيّ: “جسد واحد، وروح واحد… وربٌّ واحدٌ، وإيمان واحد، ومعموديَّة واحدة، وإله واحد، وآب واحد للجميع”
وفي رسالة يوحنَّا الأولى نجد مجموعات ثالوثيَّة وبينها: " فالشُّهود في السَّماء ثلاثة: الآب والابن والروح القدس، وهؤلاء الثلاثة هم واحد" (1يو 5: 7) أيضًا الله محبَّة (1يو4: 8 و16). فهو إذن تأكيد كيانيّ خلاصيّ؛ ويستطيع الله فقط لأنَّه محبَّة أن يكشف عن ذاته وأن يفيض ذاته كمحبَّة. إنَّ وحدة الكنيسة والعالم، وسلام البشريَّة ومصالحتها بالنِّسبة إلى المسيحيّ هي في الاعتراف بمجد الله في محبَّة الآب والابن والروح
الاعتراف الثَّالوثيّ كقاعدة إيمان
كانت الكنيسة في الحقبة الَّتي أعقبت الرُّسل تعي كل الوعي البنية الثالوثيَّة لحقيقة الخلاص المسيحيّ والشَّاهد هو في كتابات آباء الكنيسة. ولم تكن الرَّغبة في التَّنظير المجرَّد حول شراكة الآب واللابن ومع الروح القدس كفعل مجرَّد بل الممارسة في حياة الكنيسة، ولاسيَّما المعموديَّة والإفخارستيَّة وانطلاقًا منه نشأت بكل وضوح البنية الأساسيَّة لقانون الإيمان اللاحق، وإيريناوس قد عدَّد الأقسام الثلاثيَّة للإيمان: الله الآب خالق الكون- كلمة الله، ابن الله الَّذي جلب الشَّراكة والسلام مع الله- والروح القدس الَّذي يُعيد خلق البشر لله. ونستطيع ملاحظة البنية الثالوثيَّة نفسها في استدعاءات (الروح القدس)، ونهايات الصلوات والمجدلات. فهي تتوجَّه إلى الآب بابنه يسوع المسيح في الروح القدس
تطوُّر عقيدة الثَّالوث في تاريخ اللاهوت والعقائد
تتناول العقيدة الثَّالوثيَّة العلاقة بين الله الواحد وثالوث الأقانيم، ونجد المحاولات الأولى المتلمّسةفي اعتراف الكنيسة الثَّالوثيّ عند المسيحيِّين، من أصلٍ يهوديّ، إذ كانت المعطيات الأساسيَّة للعقيدة الثَّالوثيَّة في اليهوديَّة-المسيحيَّة كرواية الملائكة الثَّلاثة الَّذين يزورون إبراهيم؛ ولم يطل الوقت حتَّى تبيَّن أن هذه العقيدة الثَّالوثيَّة الملائكيَّة لا تستطيع التَّعبير عمَّا ليسوع وللرُّوح من جلالة إلهيَّة، بل إلى تصوُّر فيه تبعيَّة كما حصل فعلاً في الإبيونيَّة
حصل الشَّرح اللاهوتيّ الحقيقيّ لعقيدة الثَّالوث في المجال الهلينستيّ على مرحلتين: في مجادلة الغنوصيَّة، وفي مجادلة الفلسفة اليونانيَّة الَّتي جذَّرت أطروحات المدافعين عن الإيمان،كما يظهر عند أكبر لاهوتيِّي الكنيسة القديمة: أوريجانوس
المرحلة الأولى من تطوُّر عقيدة الثَّالوث كانت من خلال المجادلة مع الغنوصيَّة الَّتي حلَّت مشكلة الوساطة بين الله والعالم بفضل مفهوم الفيض، فيبلغون إلى معرفة سامية للمسيحيَّة. وقد شرع أيضًا إيريناوس في المناقشة بإظهار التَّناقض الدَّاخليّ في نظريَّة الفيض الغنوصيَّة: ما صدر عن المبدأ لا يمكن أن يكون غريبًا عنه تمامًا؛ مفهومٌ لفيض لايتضمَّن نقصًا في الكيان ولا انحطاطًا، بل علاقة سببيَّة على مستوى واحد. فيصحِّح إيريناوس تصوُّر الغنوصيِّين المادِّيّ الإلهيّ بتصوُّر الله كروح محض، بعد أن كانت عقيدة الفيض الغنوصيَّة تفترض نوعًا من الانقساميَّة في ما هو إلهيّ، وبالتَّالي تصوُّرًا كمّيًّا مادّيًّا له؛ وبتصوُّر إيريناوس الله روحًا محضًا، فهو يصون الوحدة والبساطة الإلهيَّة الَّتي تُقصي كل تقسيم، فوضع أسسًا لفيض على المستوى الكيانيّ الواحد ذاته، وبالتَّالي للعقيدة الثَّالوثيَّة اللاحقة، فذلك قد تمَّ بفضل أسلوب تفكيره الخلاصيّ، إذ إنَّ الوحدة الإلهيَّة تؤسِّس وحدة الخطَّة الإلهيَّة، وعلى الخصوص وحدة الخلق والفداء، والمؤكَّدة في وحدة الألوهيَّة والإنسانيَّة في يسوع المسيح؛ والمعنى الخلاصيّ للتَّجسُّد يقتضي بدوره سرمديَّة الابن والرُّوح فهذان هما بوجه ما يدا الله لتحقيق خطَّته الخلاصيَّة
أُشرع السَّبيل على عقيدة داخليَّة للثَّالوث لها علَّة خلاصيَّة، فلا يمكن لإنسانيَّة المسيح أن تصير سر الخلاص البشريّ، إلاَّ فقط إذا صار الله نفسه إنسانًا. إذَّاك تصون عقيدة ترتليانوس الثَّالوثيَّة وحدة سيادة الآب الَّذي منه ينبثق كلُّ شيء، وكذلك التَّدبير أي النّظام الحسِّيّ لتلك السِّيادة، الَّذي به يجعل الآب والابنَ مشاركًا في سيادته ويمارسها من خلاله. ونُضيف أنَّ الثلاثة هم وحدة وليس واحدًا
يتبع أوريجانوس شكليًّا طريقة الغنوصيَّة نفسها، فهو يفهم الحقيقة الواقعة أنَّها خليقة الله بحريَّة، وهي تبقى خاضعة للعناية الإلهيَّة، فيُعيد كلَّ التَّطوُّر إلى قرار الإرادة الحرّ، ويجعل بالتَّالي الحريَّة وسيلة صيرورة العالم، ثمَّ يُخْضِع أخيرًا كلَّ شيء لحكم الله، ويرى الحقيقة الإجماليَّة حيث ينبثق كل شيء من الله ويعود إليه، إذ الخروج مثل الرُّجوع يحصل بيسوع المسيح في الروح القدس فالله أوَّلاً يخلق ويسود العالم بابنه. وهذا ينبثق منذ الأزل من الله، ولكن لا بطريقة مادِّيَّة بالتَّناسل، كما في الغنوصيَّة، بل بطريقة روحيَّة، بانبثاق الإرادة، بانبثاق المحبَّة. نلاحظ أنَّ الكنيسة على ما هو باقٍ من نواقص وغموض، قد تطوَّرت من خلال مؤلَّفات إيريناوس وترتليانوس وأوريجانوس، في نقاش مع التنظيرات الغنوصيَّة، يتساير فيها الثَّالوث في تدبيره والثَّالوث في داخله على وجهٍ لا انفصام فيه
مرحلة التَّطوُّر الثَّانية اتَّسمت بالنُّزعة الآريوسيَّة،وإقامة تمييز أساسييّ بين الله والعالم، فوجب إقامة علاقة بينهما بوساطة اللوغس؛ نتيجة النِّزاع مع آريوس كانت تحديد مجمع (نيقيا 325) الوحدة الجوهريَّة بين الابن والآب، وتحديد مجمع (القسطنطينيَّة 381) المساواة في الكرامة بين الرُّوح القدس والآب والابن. وذروة اعتراف نيقيا تأكيد أنَّ الابن من ذات جوهر الآب؛ لكن المفهوم OmoousioV يحتوي عدَّة فخاخ إذ القصد منه كان إثبات أنَّ الابن غير مخلوق بل مولود لكن هناك سؤالاً طُرِحَ: هل OmoousioV تعني: من جوهر مماثل لجوهر الآب أو من ذات جوهر الآب؟ فالتَّفسير الأوَّل يؤدِّي إلى ثلاثيَّة الآلهة، والثَّاني إلى الشَّكليَّة والجواب يتعلَّق بالقرائن أكثر مِمَّا بالمفهوم نفسه. فاعترف مجمع نيقيا بالله الواحد الآب الَّذي لا يمكن إلاَّ أن يكون بجوهره واحدًا ووحيدًا. والابن هو من جوهر الآب وله من الألوهة ما للآب. وينتج من ذلك أنَّ للابن أيضًا الذَّات الإلهيَّة الواحدة غير القابلة للانقسام الَّتي للآب
هذا التَّفسير لِ OmoousioVيحتوي على ما يلي
لا ينطلق المجمع بطريقة توحيديَّة من الذَّات الإلهيَّة الوحيدة للكلام لاحقًا بطريقة ثالوثيَّة على الآب والابن والرُّوح القدس
كان المجمع يفتقد المفاهيم الذِّهنيَّة للتَّعبير بطريقة مناسبة عن وحدة الذَّات واختلاف الأقانيم
كان أنصاف الآريوسيِّين يريدون صيانة الفارق بين الآب والابن، إذ كان يبدو لهم موضع شُبهة شكليًّا بكلمة OmoousioV، فزادوا فقط حرفًا وتكلَّموا على OmoiousioV (أي المشابه للآب، المساوي له دون أن يكون هو ذاته)؛ ولكن لم يكن القبول بهذه التَّسويَة ممكنًا لأنَّها لا تفي بالمقتضى العميق لِ OmoousioV. لكن أثناسيوس سوَّغ التَّمييز بين ثلاثة أقانيم (hypostasis) وذات (أو جوهر) وحيدة. فجرى التَّميِّيز عندئذٍ بين مفهومين كانا لا يزالان في نيقيا مترادفَين؛ والتَّوضيح الأدقّ لهذين المفهومين كان من عمل الآباء الكبَّادوكيِّين، فيرى باسيليوس أنَّ الجوهر (Ousia) يعني بالفلسفة الرِّواقيَّة العموميَّة غير المحدودة؛ أمَّا الأقانيم (upostaseiV) فهي بالمقابل التَّحقيق الفعليّ الفرديّ لهذا الجوهر، فلا تعتبر أعراضًا، بل هي مكوِّنات الكائن الفعليّ؛ وخصوصيَّة الآب أنَّه ليس لوجوده أيَّة علَّة أخرى، وخصوصيَّة الابن أن يكون مولودًا من الآب، وخصوصيَّة الرُّوح أن يكون معروفًا بعد الابن ومعه وأن تنشأ ذاته من الآب